دراسات إسلامية

 

هل المجتمع يمرض ؟!

 

 

بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض

  

 

  

 

 

       2- الحسد: أمّا الحسد: فهو داء عضال يأكل قلب صاحبه، ويموت كمدًا، من كل نعمة أسبغها الله على الآخرين، سواء كانت صحّة في بدن، أو نعمة بمال، أو قدرة في علم، أو تفوّقًا في مهنة، أو جاهًا في مجتمع، أو أي نعمة فضّل بها الله شخصًا دون شخص ­﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (سورة النساء:54)

       وهي خصلة ذميمة ، ومن أرذل الخصال تجعل قلب صاحبها ينفث سمومًا قاتلة، ويحفر آبارًا ليرمي غيره فيها، فلا تهدأ نفس الحاسد، ولا يطمئن قلبه ، إلا بضرر يقع على الآخرين، ولا ترتاح نفسه، إلا بمصيبة تحلّ بهم؛ ولأنّه مرض اجتماعي خطير، فقد نهى رسول الله – – أمته عن الحسد ، وأمرهم بترويض النفوس، والتصافي، وأن يكونوا عباد الله إخوانًا، فالمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه .

       ومقت المصطفى – – الحسد بصفة عامّة إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فهو ينفق منه آناء الليل، وأطراف النّهار، ورجل آتاه الله علمًا فهو ينفع الناس ويعلمهم، وفسّر كثير من الناس: كلمة الحسد هنا بالغبطة، وتمنى العمل مثله، أما الحسد بمفهومه العدائي، وآثاره السيئة، فهو ممقوت ومبغض صاحبه؛ لأنّه يعترض على الله في قضائه وقدره، ويكفّر بعمله هذا نعماء الله التي يسبغها على من يشاء من عباده .

       وما ذلك إلا لأن الحسود مصاب بآفة شديدة الوطأة، وبداء عضال لاعلاج له إلا بتتبع النصوص الشرعيّة، والائتمار بها، وترويض النفوس على البعد عمّا نهى الله ورسوله ، واجتناب ما يوصّل لذلك؛ لأن الوقاية خير من العلاج، فالرضا بما قسم الله، والخوف من عقاب الله، وذكر الله عمّا تتوق النفس إليه هو خير سلاح يخلص من الحسد، والبعد عن المسالك المؤدية إليه؛ لأنّ الأرزاق من الله، والنعم من تقدير العزيز العليم، والصحة ليست برهان التميز.. ولذا فإن حسن التوكل على الله، وربط الأسباب بمسببها، وأنّ عطاءه سبحانه: قلّ أو كثر إنما هو لحكمة ، واستحضار مثل هذه الأمور مما يقوي النفس، ويعينها على ذكر الله، وبذكر الله تطمئن القلوب، وترضى النفوس، وتستلم .

       وعدوّ الله وعدوّ بني آدم إبليس هو أول من عصا الله بالحسد، فَطُرِدَ من رحمة الله ، وابن آدم أول من سفكَ دمًا حرامًا على وجه الأرض بالحسد، فاستحق عقاب الله الشديد، وأخبر – – كلّ نفس تُقْتَل عدوانًا فعلى ابن آدم هذا أصر منها، إنّ العقيدة والصبر، وتجاهل الحسود مما يعين في مكافحة الحسد وعزل صاحبه عن المجتمع، مما يجعله منبوذاً يتحاشاه أبناء مجتمعه، لانكشاف عمله وصدق الشاعر في قوله:

اصبر على مضض الحسود

فــــإن صــــبـــــرك قـــاتــله

كالنـــــار تأكل بعـضــهــا

إن لـــم تجــــــد مــا تأكلـه

       3- حبّ الظّهور: وهو آفة من تلك الآفات التي تجعل صاحبها يتقمّص شخصيّة غير وضعه الحقيقي، ويلبس لكلّ موقف لباسًا فضفاضًا يتخفى وراءه، ليعطي لنفسه مكانة لايستحقها، وليبرز نفسه في موقف فوق ما يستحق، وهذه الخصلة مرض اجتماعي، تجرّ صاحبها إلى آفات أخرى، فالكذب والسرقة، والغيبة والنميمة، فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

       إن علماء النفس، وعلماء الاجتماع، في عصرنا الحاضر وضعوا أسسًا ومناهج للنفس البشرية، وإحْلالها مكانها اللائق بها وهي وإنْ كانت قواعد وأسسًا، لم تستند على ركائز متينة، أوقاعدة عقدية صلبة، فكانت فاشلة في المعالجة، ولم تكبح جماح النفس عن حبّ الاستعلاء .

       لكنّ الإسلام الذي أحاط النفس بسياج حصين من التعاليم، واهتم برعايتها وتوجيهها، قد حماها من الزلل والانحراف، في أعمال وأمور يجب الإنصاف بها.

       - فالرياء الذي هو من خصال حبّ الظهور محرّم بل يفسد الأعمال، لأنّ صاحبه يحسن الأعمال ليسكب بها محمدة، مع أنّ باطنها بخلاف ظاهرها، والله جلّ وعلا يقول وقوله الحق: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الصف آية:3)

       وجعل – – من علامات النفاق ثلاثة أمور فمن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: (إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتُمِن خان)، ونهى عليه الصلاة والسلام، عن لبس الزور، وإذْ لا شك أن من بلي بآفة حب الظهور سيركب في هذا السبيل مطايا عديدة كلها مما تمقته تعاليم ديننا الحنيف، لعل إحداها توصله إلى بغيته، أو توهمه بأنه ضلّل على الآخرين ليوهمهم بشخصيّة غير شخصيّته، وليرتقي بنفسه لمكانة غير مكانته، فيعيش في وهم، ويحمل نفسه شططاً.

       قد تكون هذه أبرز أمراض المجتمع، وكلّ واحدة يتبعها غيرها في الضرر الاجتماعي، وتفشي الوباء الذي يقوّضه قد تكون من المناسب المشاركة الذي يعين في تخفيف تلك الأمراض والمناعة منها.

       لأن آفات المجتمع العديدة كل واحدة منها تستحقّ حديثًا مستقلاً حتى يمكن الإحاطة بجوانب ما تدور في فلكه، ومعرفة أبعاد ما ترمي إليه .

       ولا علاج لها عمومًا إلا بالتشبع بتعاليم الإسلام، وإدراك مرامي شريعة الله لعباده، إذْ في كتاب الله علاج يربي النفوس، ويجعلها، ويهيئها لمكانة كبيرة، رفيعة المستوى، فالإسلام يهتم بالنفس البشرية، وصلاحها حيث يصلح المجتمع، وتستقيم أحوال الناس فيه، وتتأكد قيمة بما هو متكــرر في آيات كثيـرة من القرآن الكريم ، وتأتي أحاديث عديدة، من توجيهات المصطفى – –، وأفعاله بنماذج من الخصال التي يرفع الله بها المجتمع، وتباعده عن الأمراض التي تسودّ نصاعة المجتمع، وصفاء أعمال العباد فيه، وترتفع النفس البشرية بما تشبعت به من قيم ومثاليات، في الطباع والأعمال، وفي الرغبة: خوفًا ورجاء من الله، وفي تأثير ونتائج تلك الأعمال المرتبطة بهذه الخصال التي تعود على المجتمع المثالي الذي برز في عصور الإسلام الذهبية، حيث دخلت الإسلام أممٌ عن قناعة ومحبّة لأن الله طبع حب الخير وحسن الأخلاق في كل نفس، فإذا وجدت ما يريحها وتهيأ الجوّ المناسب ووجدت من يعينها انجذبت لذلك الخير.

       وللإسلام واجب على كل مؤمن بأن يتعمق في أسرار النفس البشرية، وأن يتبصر في بعض خفايا تكليفها لأن امتثالها: ضريبة يجب على المؤمن إدراكها في العبادات وحكمها، وفي النفس وطباعها، في الأخلاق وتهذيبها .

       فمن حسن والصبر في الباسأء والضراء، والوفاء بالعهد، والإحسان إلى الناس، والتواضع وبرّ الوالدين، والصدق في القول، والتعامل الحسن، والرضاء بما قسم الله، والإحسان إلى الجار والأقرباء، والبعد عن الغيبة والنميمة، والكذب، ولين الجانب في الحديث، وفي الأخذ والعطاء، وحفظ اللسان عن الفحش وقول الزور والبهتان .

       فمن هذه الخصال وغيرها، التي تُعْتَبر من التربية الروحية، ومحاسبة النفس، وكبح جموحها نرى الإسلام حريصًا عليها لأنها علاج للآفات، تنأى بالإنسان عن أضرارها، وتحمي المجتمع من الويلات والأمراض ليصبح مجتمعًا صافيًا، بعيدًا عن السفاسف والجرائم التي هي من أمراض المجتمعات .

       وإن الحديث عن كلّ حالة ودورها في حماية المجتمع لا يخفى على ذوي الفطرة السليمة، ودور الإسلام وما شرع الله لعباده في القرآن ما لو طبقه المسلمون لسعدت به نفوسهم، وارتقى مجتمعهم، وسايرتهم فيه أمم كثيرة عن طواعية، وهذا أمر مهم في الدعوة إلى دين الله بالقدوة الحسنة، والمثالية في التعامل والسلوك .

من عجائب أخبار مصر

       قال المسعودي في مروج الذهب: كان عبد العزيز بن مروان عاملاً على مصر، فأتاه رجل مستنصح، فقال بالقبّة الفلانيّة كنز عظيم، من المرمر والرخام، عند يسير من الحفر، ثم ينتهي بك إلى قلع باب من الصفر، تحته عمود من الذهب، على أعلاه ديك من الذهب، عيناه ياقوتتان تساويان مُلْك الدنيا، وجناحاه مضرّجان بالياقوت والزّمرد .

       فأمر عبد العزيز بنفقة ألوف من الدنانير الأجرة من يحفر من الرجال في ذلك، وكان هناك تلّ عظيم، فاحتفروا حفرة عظيمة، والدلائل المقدم ذكرها من الرخام والمرمر تظهر، فازداد عبد العزيز حرصًاعلى ذلك، وأوسع في النفقة، وأكثر من الرجال ثم انتهوافي حفرهم إلى ظهور رأس الدّيك، فبرق عند ظهوره لمعان عظيم كالبرق الخاطف، لما في عينيه من الياقوت، وشدّة نوره، ولمعان ضيائه، ثم بانت قوائمه، وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع من الأحجاق والرّخام، وقناطر مقنطرة، وطاقات على أبواب مقعودة، ولاجت منها تماثيل، وصور أشخاص من أنواع الصور والذهب، وأجربة من الأحجار، قد أطبقت عليها أعطيتها، وشبّكتْ وقيد ذلك بأعمدة الذهب .

       فركب عبد العزيز بن مروان الذي كان عاملاً لأخيه عبد الملك علي مصر حتى أشرف على الموضع، فنظر إلى ما ظهر من ذلك، فأسرع بعضهم، فوضع قدمه على درجة منسبكة من نحاس تنتهي إلى ما هنالك، فلما استقرّتْ قدمه على المرقاة الرابعة ظهر سيفان عظيمان عاديان عن يمين الدرجة وشمالها، فالتفتا على الرّجل، فلم يُدركْ حتى جزّاه قطعًا، وهوى جسمه سفلاً، فلما استقرّ جسمه على بعض الدرج، اهتزّ العمود وصفّر الدّيك، تصفيرًا عجيبًا سمعه من كان على حافة بالبُعد من هنالك، وحرّك جناحيه فظهرت من تحَته أصوات عجيبة، وقد عُملت باللوالب والحركات، إذا ما وقع على بعض تلك الدّرج شيء، أو ماسّها، تهافت من هنالك من الرجال، إلى أسفل تلك الحفرة، وكان ممن يحفر ويعمل وينقل التراب، ويبصر ويتحرك، ويأمر وينهى نحو ألف رجل .

       فهلكوا جميعًا فجزع عبد العزيز، وقال: هذا ردم عجيب الأمر، ممنوع النيل، نعوذ بالله منه، وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أخرج من التراب، على من هلك، من الناس فكان الموضع قبرًا لهم: (الجزء الأول ص407-408 الطبعة الرابعة دار الأندلس بيروت لبنان).. والله أعلم بصحة ذلك لما فيه من الغرائب .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب المرجب 1428هـ = يوليو – أغسطس  2007م ، العـدد : 7 ، السنـة : 31.